فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإتيان بأفعال الكون في هذه الجمل أربع مرات ابتداء من قوله: {أولئك لم يكونوا معجزين} إلى قوله: {وما كانوا يبصرون} لإفادة ما يدل عليه فعل الكون من تمكن الحدث المخبر به فقوله: {لم يكونوا معجزين} آكد من: لا يعجزون وكذلك أخواته.
والاختلاف بين صيغ أفعال الكون إذ جاء أولها بصيغة المضارع والثلاثة بعده بصيغة الماضي لأن المضارع المجزوم بحرف {لم} له معنى المضي فليس المخالفة منها إلاّ تفننًا.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}
استئناف، واسم الإشارة هنا تأكيد ثان لاسم الإشارة في قوله: {أولئك يعرضون على ربهم} [هود: 18].
والموصول في: {الذين خسروا أنفسهم} مراد به الجنس المعروف بهذه الصلة، أي إن بلغكم أنّ قومًا خسروا أنفسهم فهم المفترون على الله كذبًا، وخسارة أنفسهم عدم الانتفاع بها في الاهتداء، فلما ضلوا فقد خسروها.
وتقدم الكلام على: {خسروا أنفسهم} عند قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} في سورة [الأنعام: 12].
والضلال: خطأ الطريق المقصود.
و: {ما كانوا يفترون} ما كانوا يزعمونه من أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الضر عند الشدائد، قال تعالى: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانًا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون} [الأحقاف: 28].
وفي إسناد الضلال إلى الأصنام تهكم على أصحابها.
شبهت أصنامهم بمن سلك طريقًا ليلحق بمن استنجد به فضَلّ في طريقه.
وجملة: {لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون} مستأنفة فذلكة ونتيجة للجمل المتقدمة من قوله: {أولئك يعرضون على ربهم} [هود: 18] لأنّ ما جمع لهم من الزج للعقوبة ومن افتضاح أمرهم ومن إعراضهم عن استماع النذر وعن النظر في دلائل الوحدانية يوجب اليقين بأنهم الأخسرون في الآخرة.
و{لا جرم} كلمة جزْم ويقين جرت مجرى المثل، وأحسب أن {جرم} مشتقّ مما تنوسي، وقد اختلف أئمّة العربية في تركيبها، وأظهر أقوالهم أن تكون {لا} من أول الجملة و{جرم} اسم بمعنى محالة أي لا محالة أو بمعنى بدّ أي لابدّ. ثم يجيء بعدها أنّ واسمها وخبرها فتكون (أنّ) معمولة لحرف جرّ محذوف. والتقدير: لا جرم من أن الأمر كذا. ولما فيها من معنى التحقيق والتوثيق وتعامل معاملة القسم فيجيء بعدها في ما يصلح لجواب قسم نحو: لا جرم لأفعلن.
قاله عمرو بن معد يكرب لأبي بكر. وعبر عمّا لحقهم من الضر بالخسارة استعارة لأنه ضر أصابهم من حيث كانوا يرجون المنفعة فهم مثل التجار الذين أصابتهم الخسارة من حيث أرادوا الربح.
وإنما كانوا أخسرين، أي شديدي الخسارة لأنهم قد اجتمع لهم من أسباب الشقاء والعذاب ما افترق بين الأمم الضالة.
ولأنهم شقُوا من حيث كانوا يحسبونه سعادة قال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا} [الكهف: 103، 104] فكانوا أخسرين لأنهم اجتمعت لهم خسارة الدنيا والآخرة.
وضمير: {هم الأخسرون} ضمير فصل يفيد القصر، وهو قصر ادّعائي، لأنهم بلغوا الحد الأقصى في الخسارة، فكأنّهم انفردوا بالأخسرية. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}
قوله تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} الآية.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، لأنهم يعذبون على ضلالهم، ويعذبون أيضًا على إضلالهم غيرهم، كما أوضحه تعالى بقوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
وبين في موضع آخر. أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين، وهو قوله في الأعراف: {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف: 38] الآية.
قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُون}.
في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه، بعضها يشهد له القرآن:
الأول- وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره، ونقله عن ابن عباس وقتادة-: أن معنى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} الآية- أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا لحق سماع منتفع، ولا أن يبصروه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله تعالى: وقد كانت لهم أسماع وأبصار.
ويدل لهذا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله} [الأحقاف: 26] الآية.
الثاني- وهو أظهرها عندي-: أن عدم الاستطاعة المذكورة في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة التي جعل على أبصارهم.
ويشهد لهذا القول قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: 57] ونحو ذلك من الآيات.
وذل الختم والأكنة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] وقوله: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وقوله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [البقرة: 10] الآية. وقوله: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] الآية وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] الآية- إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث- أن المعنى ما كانوا يستطيعون السمع اي لشدة كراهيتهم لكلام الرسل على عادة الرسل على عادة العرب في قولهم: لا استطيع أن اسمع كذا إذا كان شديد الكراهية والبغض له ويشهد لهذا القول قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [الجح: 72] وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن} [فصلت: 26] الآية وقوله: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ} [نوح: 7] الآية.
الرابع: أن {ما} مصدرية ظرفية، اي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا ويبصروا، أي يضاعف لهم العذاب دائمًا.
الخامس: {ما} مصدرية في محل نصب بنزع الخافض، أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع والإبصار في دار الدنيا، وتركوا الحق مع أنهم يستطيعون إدراكه باسماعهم وأبصارهم. وقد قدمنا في سورة النساء قول الأخفش الأصغر: بأن النصب بنزع الخافض مقيس مطلقًا عند أمن اللبس.
السادس: أن قوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله، فيكون متصلًا بقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} [هود: 20] وتكون جملة: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} اعتراضية. وتقرير المعنى على هذا القول: وما كان لهم من دون الله من أولياء ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، أي الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله. وما لا يسمع ولا يبصر لا يصح أن يكون وليًا لآخر.
ويشهد لمعنى هذا القول قوله تعالى في الأعراف: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] الآية، ونحوها من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية الكريمة قد تكون فيها أقوال، وكلها يشهد به قرآن فنذكر الجميع، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} هذه الآية تبدأ بخبر مؤكد في صيغة استفهام، حتى يأتي الإقرار من هؤلاء الذين افتروا على الله كذبًا، والإقرار سيد الأدلة.
الواحد من هؤلاء المفترين إذا سمع السؤال وأدار ذهنه في الظالمين، فلن يجد ظلمًا أفدح ولا أسوأ من الذي يفتري على الله كذبًا، ويقر بذلك.
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي هذا الخبر في صيغة استفهام، ليأتي الإقرار اعترافًا بهذا الظلم الفظيع.
وهؤلاء المكذبون يُعرَضون على الله مصداقًا لقول الحق سبحانه: {أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ} [هود: 18].
والعرض إظهار الشيء الخفي لنقف على حاله.
ومثال ذلك في حياتنا: هو الاستعراض العسكري حتى يبيِّن الجيش قوته أمام الخصوم، وحتى تُبلغ الدولة غيرها من الدول بحجم قوتها.
وكذلك نجد الضابط يستعرض فرقته ليقف على حال أفرادها، ويقيس درجة انضباط كل فرد فيها وحسن هندامه، وقدرة الجنود على طاعة الأوامر.
ومثال آخر من حياتنا: فنحن نجد مدير المدرسة يستعرض تلاميذها لحظة إعلان نتائج الامتحان، ويرى المدير والتلاميذ خزي المقصر منهم أو الذي لم يؤد واجبه بالتمام.
فما بالنا بالعرض على الله تعالى، حين يرى المكذبون حالهم من الخزي؟
ذلك أنهم سيفاجأون بوجود الله الذي أنكروه افتراءً؛ لأن الحق سبحانه يقول: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَاءً حتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِندَهُ} [النور: 39].
فأيُّ خزي إذن سيشعرون به؟!
ويُظهر الحق سبحانه وتعالى ما كان مخفيّا منهم حين يعرض الكل على الله تعالى مصداقًا لقوله سبحانه: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 48].
وكذلك يُعرضون على النار؛ لأن الحق سبحانه هو القائل: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46].
وهكذا يظهر الخزي والخجل والمهانة على هؤلاء الذين افتروا على الله تعالى.
وهو سبحانه يعلم كل شيء أزلًا، ولكنه سبحانه شاء بذلك أن يكشف الناس أمام بعضهم البعض، وأمام أنفسهم، حتى إذا ما رأى إنسان في الجنة إنسانًا في النار، فلا يستثير هذا المشهد شفقة المؤمن؛ لأنه يعلم أن جزاء المفتري هو النار.
ويا ليت الأمر يقتصر على هذا الخزي، بل هناك شهادة الأشهاد؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول في نفس الآية: {وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ} [هود: 18].
والأشهاد جمع له مفرد، هو مرة شاهد، مثل صاحب وأصحاب، ومرة يكون المفرد: شهيد مثل شريف وأشراف.
والأشهاد منهم الملائكة؛ لأن الحق سبحانه يقول: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
وكذلك الحق سبحانه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الإنفطار: 10- 12].
أو شهود من الأنبياء الذين بلغوهم منهج الله؛ لأن الحق سبحانه يقول: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيدًا} [النساء: 41].
وأيضًا الشهيد على هؤلاء هو المؤمن من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فيبلِّغها إلى غيره، مصداقًا لقول الحق سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143].
وكلمة الشهادة تعني: تسجيل ما فعلوا، وتسجل أيضًا أنهم بُلِّغوا المنهج وعاندوه وخرجوا عليه، فارتكبوا الجريمة التي تقتضي العقاب، لأن العقوبة لا تكون إلا بجريمة، ولا تجريم إلا بنص، ولا نص إلا بإعلام.
ولذلك نجد القوانين التي تصدر من الدولة تحمل دائمًا عبارة يُعمل بالقانون من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.
إذن: فعمل الأشهاد أن يعلنوا أن الذين أنكروا الرسالة والرسول قد بُلِّغوا المنهج، وبُلِّغوا أن إنكار هذا المنهج وإنكار هذا الرسول هو الجريمة الكبرى، وأن عقوبة هذا الإنكار هي الخلود في النار.
ولأن الحق سبحانه وتعالى هو العدل نفسه؛ لذلك فلا عقاب إلا بالتأكيد من وقوع الجريمة، لذلك لابد من شهادات متعددة، ولذلك يأتي الشاهد من الملائكة، وهو من جنس غير جنس المعروضين، ويأتي الشاهد من الأنبياء وهو من جنس البشر إلا أنه معصوم.
وكذلك يأتي الشاهد من الإخوة المؤمنين الذين يشهدون أنهم قد بُلِّغوا منهج الإيمان، ثم تأتي شهادة هي سيدة الشهادات كلها، وهي شهادة الأبعاض على الكل.
يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ حتى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 19- 21].
فالجوارح تنطق لتقيم الحجة على أولئك المذنبين.
وسؤال المذنبين عن كيفية وقوع النطق لا لزوم له؛ لذلك نجد السؤال هنا {لمَ}؛ لأن الجوارح كانت هي أدوات المذنبين في ارتكاب الجرائم؛ لأن اليد هي التي امتدت لتسرق، واللسان هو الذي نطق قول الزور، والقلب هو الذي حقد، والساق هي التي مشت إلى المعصية.
والإنسان كما نعلم مركَّب من جوارح، وهذه الجوارح لها أجهزة تكوِّن الكل الإنساني، ومدير كل الجسم هو العقل، فهو الذي يأمر اليد لتمتد وتسرق، أو تمتد لتربت على اليتيم؛ والعين تأخذ أوامرها من العقل، فإما أن يأمرها بأن تنظر إلى جمال الكون، وتعتبر بما تراه من أحداث، أو يأمرها بأن تنظر إلى الحرام.
إذن: الجوارح خادمة مطيعة مُسخَّرة لذلك الإنسان وإرادته، لكن الأمر يختلف في الآخرة، حيث لا أمر لأحد إلا الله.
والحق سبحانه القائل: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
فالجوارح تقول يوم القيامة لأصحابها: كنا نفعل ما تأمروننا به من المعاصي رغمًا عنا؛ لأننا كنا مُسخَّرين لكم في الدنيا، والآن انحلَّتْ إرادتكم عنا فقلنا ما أجبرتمونا على فعله.
وهكذا تعترف الأشهاد، مصداقًا لقول الحق سبحانه: {وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18].
وما داموا قد كذبوا على ربهم، فالمكذوب عليه هو الله، ولابد أن يطردهم من الرحمة، وهم قد ارتكبوا قمة الظلم وهو الشرك به والإلحاد وإنكار الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}
وهنا يحدثنا القرآن عن هؤلاء الذين كفروا بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بكفرهم، بل تمادوا وأرادوا أن يصدوا غيرهم عن الإيمان.
وبذلك تعدَّوا في الجريمة، فبعد أن أجرموا في ذواتهم؛ أرادوا لغيرهم أن يُجرم.
وسبق أن أنزل الحق سبحانه خطابًا خاصًّا بأهل الكتاب، الذين سبق لهم الإيمان برسول سابق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أعماهم الطمع في السلطة الزمنية فطمسوا الآيات المبشرة برسول الله في كتبهم، وهم بذلك إنما صدُّوا عن سبيل الله، وأرادوا أن تسير الحياة معوجَّة.